الاقتصاد الدائري كمدخل لحماية البيئة وتحقيق التنمية المستدامة

الاقتصاد الدائري كمدخل لحماية البيئة وتحقيق التنمية المستدامة

المقدمة

في ظل التحديات البيئية المتزايدة التي يواجهها العالم اليوم، مثل تغير المناخ، وتراكم النفايات، واستنزاف الموارد الطبيعية، بات من الضروري البحث عن نماذج اقتصادية بديلة ومستدامة. ويُعد الاقتصاد الدائري واحدًا من أبرز هذه النماذج وأكثرها فعالية في تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي وحماية البيئة.

يقوم الاقتصاد الدائري على مبدأ أساسي هو الاستفادة القصوى من الموارد، من خلال إعادة الاستخدام، والتدوير، والإصلاح، بدلاً من النظام الخطي التقليدي القائم على "الإنتاج – الاستهلاك – التخلص". هذا التحول في التفكير الاقتصادي لا يقتصر على تقليل النفايات فحسب، بل يسهم بشكل مباشر في تقليل الانبعاثات الملوثة، والحفاظ على البيئة، وتقليل الضغط على الموارد الطبيعية.

ما هو الاقتصاد الدائري

الاقتصاد الدائري هو نموذج إنتاج واستهلاك يركز على تقليل النفايات من خلال إعادة استخدام المواد والمنتجات بأكبر قدر ممكن. يشمل ذلك المشاركة، التأجير، الإصلاح، التجديد، وإعادة التدوير، مما يساهم في تمديد عمر المنتجات.

في هذا النموذج، يتم تقليص النفايات إلى الحد الأدنى، وعند انتهاء عمر المنتج، يتم إعادة استخدام مواده داخل الاقتصاد من خلال التدوير، مما يسمح بإعادة استخدامها بشكل منتج وتوليد قيمة إضافية.

ماذا يهدف الاقتصاد الدائري

الاقتصاد الدائري يهدف إلى تقليل الفاقد والحد من الهدر، مما يقلل الحاجة لاستخدام المزيد من السلع والموارد. إنه يقدم بديلاً جذريًا للاقتصاد الخطي القائم على مبدأ "الأخذ والتصنيع والتخلص"، والذي يعتمد على افتراض أن المواد الخام متوفرة باستمرار وأن هناك أماكن لدفن النفايات.

مع تزايد عدد سكان العالم، أصبح من الواضح أن الافتراضات التي يقوم عليها الاقتصاد الخطي غير قابلة للاستدامة. النموذج الذي ساد في قطاع التصنيع منذ الثورة الصناعية أصبح الآن تحت ضغط كبير.

في الماضي، كان عدد سكان الأرض أقل من مليار نسمة. أما اليوم، فقد وصل عدد السكان إلى 8 مليارات نسمة، مع تزايد الطبقة المتوسطة الاستهلاكية. المشكلة لم تعد تقتصر على استهلاك الموارد نفسها، بل أصبحنا نهدرها بمعدلات مقلقة. ووفقًا لتقرير الأمم المتحدة، فإن استخراج الموارد العالمية تضاعف بأكثر من ثلاثة أضعاف منذ عام 1970، ومع ذلك، أكثر من 90% من المواد الخام لا يتم إعادة استخدامها.

الوضع الراهن

يُعد التلوث البلاستيكي من أخطر التهديدات البيئية التي تواجه كوكب الأرض، إلا أن تبني حلول الاقتصاد الدائري يوفر فرصًا كبيرة لمواجهة هذا التحدي. تشير التقديرات إلى أن التلوث البلاستيكي في المحيطات قد يتضاعف بحلول عام 2040 إذا لم تُتخذ تدابير فورية.

لكن الأبحاث تؤكد أن تطبيق نهج دائري شامل يمكن أن يؤدي إلى:

  • تقليص كمية البلاستيك التي تصل إلى المحيطات بأكثر من 80% بحلول 2040
  • خفض إنتاج البلاستيك الخام بنسبة 55%
  • تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في هذا القطاع بنسبة 25%
  • خلق 700 ألف وظيفة جديدة صافية

في خطوة تاريخية، وافق ممثلون عن 175 دولة خلال جمعية الأمم المتحدة للبيئة (5.2) على بدء مفاوضات لإبرام اتفاق عالمي يعالج التلوث البلاستيكي من جذوره، من خلال النظر في دورة حياة البلاستيك كاملة، من التصنيع وحتى الوصول إلى البحار.

التحديات التي تواجه تطبيق الاقتصاد الدائري:

التحدي الأول - الحصول على البيانات المطلوبة
يعد تتبع مكونات أي منتج أمرًا أساسيًا في تطبيق نموذج الاقتصاد الدائري. يشمل ذلك مراقبة انبعاثات مراحل إنتاج 

المواد الخام، النقل، التطبيق، ونهاية عمر المنتج، بالإضافة إلى انبعاثات مصادر الشركة واستهلاك الطاقة. يوفر هذا المعلومات الضرورية لتطبيق استراتيجيات تقليص الانبعاثات في المراحل الأكثر تأثيرًا.

في بعض الحالات، قد تتوفر البيانات المطلوبة لحساب الانبعاثات وتطبيق الاقتصاد الدائري، ولكن من الصعب العثور عليها أو استخدامها، مما يستدعي عملية يدوية مكثفة. وفي حالات أخرى، قد تكون البيانات غير متوفرة تمامًا وتتطلب جمعًا شاملاً، يشمل تتبع استهلاك الطاقة والتعاون مع الموردين للحصول على بيانات انبعاثاتهم.

من أجل تحقيق تقدم حقيقي نحو أهداف الاستدامة، يجب أن تتعاون المؤسسات في جمع بيانات شاملة تسهم في تحسين الأداء البيئي وتخفيض التكاليف.

التحدي الثاني - الوصول إلى مواد عالية الجودة


تعاني الشركات من صعوبة في الحصول على مواد ما بعد الاستهلاك بسبب ضعف معدلات إعادة التدوير ونقص برامج التبادل التجاري، خاصة في المناطق التي لا تتوفر فيها هذه البرامج بشكل كافٍ. في عام 2019، تم إعادة تدوير حوالي 9% فقط من البلاستيك عالميًا، وفقًا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

المواد التي يتم استعادتها يجب أن تستوفي معايير صارمة، خاصة في الصناعات التي تتطلب ضمانات عالية للسلامة مثل الأجهزة الطبية وتغليف المواد الغذائية. هذه الصناعات تأخذ وقتًا طويلاً لقبول المواد المستعادة لضمان أمانها وجودتها.

التحدي الثالث - نقص الشراكات بين القطاعات


على مر التاريخ، كان التعاون بين الحكومات وشركات إدارة النفايات والعلامات التجارية محدودًا، خصوصًا في ما يتعلق بحلول جمع المنتجات بعد استخدامها. حتى عندما تسعى الشركات إلى تشجيع إعادة تدوير منتجاتها، غالبًا ما تواجه صعوبة في تتبع العملية بسبب غياب التنسيق بين سلاسل التوريد.

التأثير الدائري

بينما قد تختفي بعض التحديات التي تواجه الاقتصاد الدائري مع مرور الوقت، فإن هناك تحديات أخرى تتطلب وضع أطر عمل جديدة وتدخلات حكومية. ومع ذلك، فإن التحول نحو الاقتصاد الدائري قد بدأ بالفعل على نطاق عالمي. وذلك على سبيل المثال:

الاتحاد الأوروبي

تتولى مفوضية الاتحاد الأوروبي قيادة هذا التحول من خلال أهداف طموحة، تمويلات بمليارات الدولارات، وخطة عمل اقتصادية دائرية شاملة، في إطار الصفقة الخضراء الأوروبية. تشمل الآثار المحتملة لسياسات الاقتصاد الدائري في الاتحاد الأوروبي ما يلي:

  • تحسين كفاءة استخدام الموارد بنسبة 30% بحلول عام 2030.

  • زيادة الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي بنسبة 0.5% بحلول 2030.
  • جعل جميع مواد التغليف البلاستيكية في سوق الاتحاد الأوروبي قابلة لإعادة التدوير بحلول 2030
  • خفض مكبات النفايات إلى 10% فقط من النفايات البلدية بحلول 2035.
  • تحقيق الحياد المناخي بحلول 2050.

وبحلول مارس 2019، تم تنفيذ أو في طور التنفيذ جميع الإجراءات الـ 54 الواردة في الخطة.

الولايات المتحدة

في الولايات المتحدة، يتقدم القطاع الخاص نحو تحقيق اقتصاد دائري أكثر. العديد من الشركات الكبرى مثل جوجل، أمازون، إتش بي، كوكاكولا، وكاتربيلر، قد كشفت عن خططها للمساهمة في الاقتصاد الدائري. كما أن قائمة المنتجات الحاصلة على شهادة "من المهد إلى المهد" تمثل أمثلة على "النظم البيئية الدائرية" التي بدأ تطبيقها في مختلف الشركات.

ومع تزايد استفادة الشركات من مزايا الاقتصاد الدائري، تزداد وتيرة انضمام شركات أخرى إلى هذا التحول. وفقًا لمؤسسة غرفة التجارة الأمريكية، فإن التحول نحو الاقتصاد الدائري قد يحقق الأهداف التالية بحلول عام 2025:

  • توليد ما يصل إلى تريليون دولار سنويًا من القيمة الاقتصادية.
  • خلق أكثر من 100 ألف فرصة عمل جديدة.
  • تقليص النفايات بمقدار 100 مليون طن.
  • استعادة رأس المال الطبيعي وخدمات النظام البيئي.

مصر

على غرار التجارب العالمية في الاقتصاد الدائري، بدأت مصر في بناء نموذجها الخاص القائم على إعادة الاستخدام والتقليل من الفاقد البيئي. يتركز هذا النموذج في مشروعات إعادة تدوير المخلفات ومعالجة مياه الصرف الصحي بطرق مستدامة وصديقة للبيئة.

تم حتى الآن إنشاء 51 مصنعًا لإعادة تدوير المخلفات، وهو ما يعكس توجهًا واضحًا نحو تقليل النفايات وتعظيم الاستفادة من الموارد. وفي قطاع المياه، يوجد 421 محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي، ساهمت في معالجة 4436.7 مليون متر مكعب من مياه الصرف خلال عام 2019.

يمثل هذا التوجه حجر الأساس لبناء اقتصاد دائري متكامل في مصر، يدعم التنمية المستدامة ويحد من الأثر البيئي للأنشطة الاقتصادية، وفقًا لخطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية للعام المالي 2023/2024 الصادرة عن وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية.

إعداد/ داليا رجب علي