نيويورك – في لحظة فارقة من مسيرة البشرية نحو مستقبل مستدام، انعقد المنتدى السياسي رفيع المستوى (HLPF) لعام 2025 في مقر الأمم المتحدة بنيويورك، حاملاً معه شعوراً متزايداً بالإلحاح ومزيجاً من الأمل والقلق. يأتي هذا الحدث في توقيت حاسم، حيث يقف العالم عند الذكرى العاشرة لاعتماد خطة التنمية المستدامة لعام 2030، وقبل خمس سنوات فقط من الموعد النهائي لتحقيق أهدافها. وتحت شعار "تعزيز الحلول المستدامة والشاملة والقائمة على العلم والأدلة لخطة التنمية المستدامة لعام 2030 وأهدافها لضمان عدم ترك أحد خلف الركب"، سعى المنتدى إلى تقديم تقييم صادق للتقدم المحرز، وتحديد التحديات المستمرة، ورسم مسار واضح لتسريع الجهود العالمية.
لمحة حول الوضع الحالي
كانت الرسالة الافتتاحية التي تردد صداها في قاعات الأمم المتحدة واضحة ومقلقة: العالم ليس على المسار الصحيح لتحقيق أهداف التنمية المستدامة بحلول عام 2030. كشف تقرير التقدم الذي قدمه الأمين العام للأمم المتحدة عن إحصائيات تدعو إلى القلق العميق. أظهرت البيانات أن 35% فقط من غايات أهداف التنمية المستدامة تحرز تقدماً معتدلاً، بينما 47% منها تشهد تقدماً غير كافٍ. والأكثر إثارة للقلق هو أن 18% من الغايات تشهد تراجعاً فعلياً، مما يعني أن العالم يفقد مكاسب تحققت بشق الأنفس في مجالات حيوية. هذه الأرقام الصادمة تؤكد أن الغالبية العظمى من الأهداف (65%) لا تسير على المسار الصحيح، مما يستدعي تغييراً جذرياً في النهج المتبع.
وقد حددت المناقشات عدة عوامل رئيسية تعرقل التقدم، أبرزها النزاعات الجيوسياسية التي تستنزف الموارد وتدمر البنى التحتية، وفجوات التمويل الهائلة التي تقدر بتريليونات الدولارات سنوياً، بالإضافة إلى التأثيرات المتزايدة لتغير المناخ، وتفاقم أوجه عدم المساواة داخل البلدان وفيما بينها.
مراجعة متعمقة لبعض الأهداف المحورية
ركز المنتدى بشكل خاص على مراجعة متعمقة لأربعة أهداف حيوية للتنمية المستدامة، بالإضافة إلى الهدف السابع عشر المتعلق بالشراكات، والذي يُراجَع سنوياً
- (الهدف 3) الصحة الجيدة والرفاهية: تم الاعتراف بالتقدم المحرز في مجالات مثل تحسين الوصول للخدمات الصحية الأساسية وتقليل وفيات الأطفال. ومع ذلك، ألقت جائحة كوفيد-19 بظلالها الثقيلة، كاشفةً عن ضعف الأنظمة الصحية وأدت إلى تراجع في متوسط العمر المتوقع عالمياً. برزت قضية تمويل الصحة كأحد التحديات الرئيسية، مع دعوات لآليات تمويل مبتكرة والاستثمار في البحث والتطوير، خاصة للأمراض التي تؤثر بشكل غير متناسب على البلدان النامية.
- (الهدف 5) المساواة بين الجنسين: على الرغم من بعض التقدم، لا تزال النساء والفتيات يواجهن حواجز هائلة في الوصول إلى التعليم والعمل والمشاركة السياسية. سلطت المناقشات الضوء على التراجع المقلق في السياسات المتعلقة بالصحة الجنسية والإنجابية، واستمرار العنف القائم على النوع الاجتماعي، وعدم الاعتراف بعمل الرعاية غير مدفوع الأجر. برزت دعوات قوية للاستثمار في تعليم الفتيات واقتصاد الرعاية، واعتماد تدابير لتعزيز وصول النساء إلى التمويل والتقنيات الرقمية.
- (الهدف 8) العمل اللائق والنمو الاقتصادي: وُصف هذا الهدف بأنه واحد من أكثر الأهداف "خروجاً عن المسار". حيث أشارت منظمة العمل الدولية إلى أن أسباب التراجع تشمل الضغوط المالية والبيئية والتحولات الاقتصادية المدمرة. ودارت نقاشات مستفيضة حول ضرورة توسيع التوظيف، وتحسين حقوق العمال، ومعالجة قضايا مثل الإجهاد الحراري في أماكن العمل، وتعزيز الانتقال من الاقتصاد غير الرسمي إلى الرسمي.
- (الهدف 14) الحياة تحت الماء: أُشير إلى هذا الهدف باعتباره الأقل تمويلاً بين جميع الأهداف، على الرغم من الأهمية الحيوية للمحيطات لرفاهية الإنسان وكوكب الأرض. تم تسليط الضوء على التهديدات الخطيرة التي يمثلها التلوث البلاستيكي، وتحمض المحيطات، والصيد الجائر. بالإضافة إلى ذلك دعت مجموعات الشباب والمجتمع المدني إلى رفع طموح حماية المحيطات، مع مطالبات بزيادة المناطق البحرية المحمية.
الترابط بين الأهداف: مفتاح الحلول المتكاملة
كان موضوع الترابط بين الأهداف خيطاً مشتركاً نسج جميع مناقشات المنتدى. حيث أكد المندوبون مراراً وتكراراً أن تحقيق أي هدف يعتمد على التقدم في الأهداف الأخرى. على سبيل المثال، لا يمكن تحقيق الصحة الجيدة (الهدف 3) دون القضاء على الفقر (الهدف 1) وضمان التعليم الجيد (الهدف 4). وبالمثل، يُعتبر تمكين المرأة (الهدف 5) محركاً أساسياً للتقدم عبر جميع الأهداف الأخرى تقريباً. هذا الاعتراف بالطبيعة المترابطة للأهداف يؤكد على ضرورة اعتماد نهج متكامل وشامل يتجاوز العمل في صوامع منعزلة.
تحديات وفرص رئيسية
برزت عدة قضايا شاملة كنقاط محورية للنقاش والخلاف:
- التمويل من أجل التنمية: شكلت فجوة التمويل تحدياً رئيسياً. ورغم بعض الالتزامات التي تم التعهد بها في المؤتمر الدولي الرابع لتمويل التنمية (FfD4)، أعرب العديد من المتحدثين عن خيبة أملهم لعدم وجود إجراءات حاسمة لسد الفجوة التمويلية. دارت النقاشات حول الحاجة الملحة لإصلاح الهيكل المالي العالمي، وتخفيف أعباء الديون، وتطوير آليات تمويل مبتكرة.
- العلوم والتكنولوجيا والابتكار (STI): تم الاعتراف بالدور الحاسم للعلوم والتكنولوجيا في تسريع التقدم. ومع ذلك، تم التحذير من أن الابتكار يجب أن يكون شاملاً ومنصفاً. وأُثيرت مخاوف بشأن الفجوة الرقمية وأهمية دمج المعرفة المحلية والتقليدية مع البحث العلمي المتقدم لضمان أن تكون الحلول فعالة ومناسبة للسياقات المحلية.
- قضايا شائكة ومواقف متباينة: شهد المنتدى مواقف متباينة حول قضايا حساسة، على سبيل المثال، أثارت المصطلحات المتعلقة بالهوية الجنسية جدلاً، حيث دعت مجموعات المجتمع المدني إلى الاعتراف بحقوق الإنسان لجميع الأجناس، بينما عارضت بعض الدول استخدام مصطلح "النوع الاجتماعي". كما برز خلاف حول دور الاستثمارات الخاصة، حيث انتقد البعض دورها في انتهاكات حقوق الإنسان، بينما رأى آخرون أنها ضرورية لسد فجوات التمويل.
المراجعات الوطنية الطوعية (VNRs): نافذة على العمل المحلي
قدمت 36 دولة، بما في ذلك دول تواجه تحديات فريدة مثل النزاعات أو الآثار المناخية الشديدة، مراجعاتها الوطنية الطوعية. أظهرت هذه العروض التقديمية كيف تترجم الأهداف العالمية إلى سياسات وإجراءات على أرض الواقع. على سبيل المثال، عرضت غواتيمالا التقدم في تقليل وفيات الأمهات، بينما قدم السودان عرضاً مؤثراً حول كيفية تسبب النزاع في تراجع الإنجازات التي تحققت بشق الأنفس. أبرزت هذه المراجعات أهمية وجود أطر مؤسسية قوية، ونهج شامل يضم جميع أصحاب المصلحة، والاستثمار في البيانات لمراقبة التقدم.
توصيات وخطوات للمستقبل
تبلورت من هذه النقاشات مجموعة من التوصيات الرئيسية منها:
- إصلاح النظام المالي العالمي: جعله أكثر شمولية وعدالة، مع التركيز على تحسين وصول البلدان النامية للتمويل وتقديم حلول مبتكرة لمشكلة الديون.
- الاستثمار في العلم والناس: زيادة الاستثمار في العلوم والتكنولوجيا والابتكار، مع ضمان الوصول العادل. وكذلك الاستثمار في التعليم والتدريب المهني واقتصاد الرعاية لمعالجة عدم المساواة.
- اعتماد سياسات شاملة: تصميم سياسات تعالج الأسباب الجذرية لعدم المساواة، وتحسن حماية العمال، وتعزز الحوار الاجتماعي.
- تعزيز العمل المحلي: تمكين الحكومات والمجتمعات المحلية بالموارد والأدوات اللازمة لتنفيذ مشاريع التنمية المستدامة التي تلبي احتياجاتهم الخاصة.
يمثل المنتدى السياسي رفيع المستوى لعام 2025 جرس إنذار للعالم. الرسالة واضحة: الوقت ينفد، والجهود الحالية ليست كافية. ومع ذلك، فإن المنتدى لم يكن مجرد منصة لعرض الحقائق المقلقة، بل كان أيضاً دعوة قوية للعمل الجماعي، وتذكيراً بأن الحلول ممكنة إذا توفرت الإرادة السياسية والشراكات الحقيقية والالتزام الراسخ بعدم ترك أي شخص خلف الركب. ستكون الأشهر والسنوات القليلة القادمة حاسمة لتحديد ما إذا كان العالم سيرتقي إلى مستوى هذا التحدي ويحول وعود عام 2030 إلى حقيقة واقعة للجميع.
إعداد/ روضة أبوبكر محروس