في الثاني عشر من ديسمبر/كانون الأول 2015، شهدت العاصمة الفرنسية باريس لحظة تاريخية حين قرعت مطرقة لوران فابيوس، معلنة اعتماد اتفاقية باريس للمناخ من قبل 195 دولة. وُصفت الاتفاقية آنذاك بأنها أول معاهدة دولية ملزمة تهدف إلى خفض انبعاثات الغازات الدفيئة ومواجهة التغير المناخي بشكل جماعي.

كان الهدف طموحًا وواضحًا: الحد من ارتفاع متوسط درجة الحرارة العالمية إلى أقل بكثير من درجتين مئويتين، مع السعي الجاد لحصرالزيادة في حدود 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل العصر الصناعي.
واليوم، وبعد مرور عقد كامل، يقف العالم أمام لحظة تقييم حاسمة: ماذا تحقق؟ وأين تعثر المسار؟
تطورات ومنجزات العقد الأول
نجحت اتفاقية باريس في إعادة تشكيل الأجندة السياسية العالمية للمناخ، وحافظت الأمم المتحدة على دورها المحوري كمنصة للتفاوض والتنسيق الدولي. ومن أبرز الإنجازات المحققة خلال السنوات العشر الماضية:
- تغيير مسار الاحترار المتوقع:
قبل الاتفاقية، كان العالم يتجه نحو ارتفاع كارثي قد يصل إلى 4 درجات مئوية بنهاية القرن. أما اليوم، وبناءً على الالتزامات الحالية، تشير التقديرات إلى تراجع هذا المسار ليقع بين 2.3 و2.9 درجة مئوية، وهو تحسن نسبي يعكس أثر الاتفاقية، وإن كان غير كافٍ. - ثورة الطاقة المتجددة:
شهد العقد الأول من الاتفاقية توسعًا غير مسبوق في استخدام الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، حيث أصبحت هذه المصادر أرخص وأسرع انتشارًا من الوقود الأحفوري. وفي النصف الأول من عام 2025، وللمرة الأولى في التاريخ، أنتج العالم كهرباء من الشمس والرياح أكثر مما أنتجه من الفحم. - تبني استراتيجيات "صافي الانبعاثات الصفرية":
انتقل العالم من غياب شبه كامل لأهداف الحياد الكربوني عام 2015 إلى إعلان أكثر من 140 دولة -تمثل نحو 83% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي- التزامها بالوصول إلى صافي انبعاثات صفرية بحلول منتصف القرن. - تقدم في آليات التمويل المناخي:
شكل إطلاق صندوق الخسائر والأضرار خطوة تاريخية لدعم الدول الأكثر تضررًا من آثار التغير المناخي، بعد سنوات طويلة من الخلافات والمفاوضات الشاقة

عقبات في المسار
رغم هذه المنجزات، فإن الواقع لا يزال صعبًا، والنتائج تبقى مختلطة. فهناك فجوات عميقة تهدد نجاح الاتفاقية على المدى الطويل:
- تجاوز عتبة 1.5 درجة مئوية:
أظهرت البيانات أن العالم سجل في عام 2024 تجاوزًا مؤقتًا لهذه العتبة، مع تزايد موجات الحر الشديد والظواهر المناخية المتطرفة. وتحذر تقارير علمية من أن هدف 1.5 درجة قد يصبح بعيد المنال، أو يتم تجاوزه بشكل دائم، بحلول عام 2030. - فجوة التمويل المناخي:
لم تفِ الدول المتقدمة بتعهدها توفير 100 مليار دولار سنويًا لدعم الدول النامية، ولا يزال التمويل الموجه لآليات مثل "صندوق المناخ الأخضر" أقل بكثير من الوعود المعلنة. - الاعتماد المستمر على الوقود الأحفوري:
على الرغم من الالتزامات المناخية، لا يزال العالم يقدم دعمًا ضخمًا لصناعة الوقود الأحفوري، مع استمرار خطط التوسع في إنتاج النفط والغاز في عدة دول، في تناقض واضح مع أهداف الاتفاقية. - التذبذب السياسي والاستقطاب الدولي:
تأثرت الاتفاقية بتقلبات سياسية حادة، خاصة في الولايات المتحدة التي انسحبت منها ثم عادت، قبل أن تعلن نيتها الانسحاب مجددًا. كما لعبت بعض الدول، مثل روسيا والسعودية، دورًا معرقلًا في تمرير قرارات حاسمة خلال جولات التفاوض.
.jpeg)
المشهد التكنولوجي والعدالة البيئية
رغم التطور السريع في تقنيات الطاقة المتجددة، لا يزال التقدم بطيئًا في مجالات حاسمة مثل تخزين الطاقة، والبطاريات، وتحول الصناعات الثقيلة.
في المقابل، برزت إشكاليات جديدة مرتبطة بما يُعرف بـ"الاستخراج الأخضر"، إذ يتم تعدين المعادن اللازمة للتحول الطاقي -كالليثيوم والنحاس- بأساليب قد تكون مدمرة بيئيًا أو غير عادلة اجتماعيًا، خصوصًا في دول الجنوب العالمي.
.jpeg)
المرحلة القادمة: من الالتزامات إلى التنفيذ
لم تكن اتفاقية باريس نهاية الطريق، بل كانت بداية ضرورية أرست إطارًا عالميًا للمساءلة والشفافية. غير أن العقد القادم يتطلب انتقالًا حقيقيًا من الوعود والأهداف الطموحة إلى التنفيذ الفعلي وتحمل المسؤولية الأخلاقية تجاه الأجيال القادمة.
في عالم يزداد استقطابًا، حيث تتقدم أولويات الأمن والدفاع على حساب المناخ، يبقى الأمل معقودًا على تحركات المدن، والشركات، والمجتمع المدني، والمواطنين، لفرض واقع جديد يتجاوز بطء الحكومات.
.jpeg)
اتفاقية باريس كانت بوصلةً أعادت توجيه السفينة العالمية نحو المسار الصحيح، لكن الرياح السياسية والاقتصادية المعاكسة لا تزال تجعل الوصول إلى شاطئ الأمان المناخي رحلة شاقة، محفوفة بالمخاطر، وتتطلب شجاعة جماعية غير مسبوقة.




